لو تكـلم الـمـوتى
إخواني في الله أن تتصور حال الموتى فهذا نوع من التذكر المحمود لموتٍ موعود،كما قرر ذلك ابن الجوزي - رحمه الله تعالى- في صيد الخاطر حين قال: من أظرف الأشياء إفاقة المحتظر عند موته فإنه ينتبه إنتباهاً لا يوصف ويقلق قلقاً لا يحد ويتلهف على زمانه الماضي ويود لو تُرك كي يتدارك ما فاته ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف ولو وجد ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل له كل مقصود من العمل بالتقوى،فالعاقل من مثّل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك،فإن لم يتهيأ له تصوير ذلك على حقيقته تخايله على قدر يقظته،فإنه يكف الهوى ويبعث على الجد؛لنعش لحظات مع هذا التذكر على منهج ابن الجوزي- رحمه الله- لحقيقة الموت في وقفات تسع.
-الوقفة الأولى: يا ليت قومي يعلمون
-الوقفة الثانية: جـار غيـر عـزيز
-الوقفة الثالثة: ولقد جئتمونا فرادى
-الوقفة الرابعة: رفيقـة الـدرب
-الوقفة الخامسة: ذبـول وردة
-الوقفة السادسة: فـي الاستـراحة
-الوقفة السابعة: ألا لله الدين الخالص
-الوقفة الثامنة: هذه أموالي تقسم
-الوقفة التاسعة: معالم النجاة
تصور لو أن أهل القبور خرجوا من قبورهم،خرجوا بأكفان بالية ووجوه مغبرة ، خرجوا من سكون القبور وظلمتها إلى ضجيج الأرض وأضوائها، فركوا عيونهم، عركوا آذانهم ثم انطلقوا في أنحاء المدينة أشباحاً مهيبة ليحدثونا عن هول ما رأوا فماذا عساهم أن يقولوا بعد هول المطلع وسؤال منكر ونكير وحساب عسير، وكيف يا ترى سيكون حديث الأموات للأحياء.
الوقفة الأول: يا ليت والدي يعلم
هذا فتى مات في ريعان شبابه اختطفه الموت وهو أوسع الناس أملاً في العيش وأكثرهم رجاءً في متاع الحياة الدنيا،مات على إسراف منه بالمعاصي،فماذا عساه أن يقول لأبيه المفرّط في تربيته لو لقيه في هذه الدنيا لعله أن يقول: يا أبتي لقد رأيت ثمار ذنوبي وهي آثار تربيتك رأيت هذه الثمار ناراً تلظى وجحيماً لا يطاق، يا أبتي لقد كنت في حياتي تُعنى كثيراً بلباسي ومأكلي ومشربي ولكنك لم تكن تُعنى بقلبي وروحي لقد أهملتني في بداية مراهقتي، فلم توجهني إلى أصدقاء صالحين ، لم تكن تهتم بما أصاحب من أقاربي وجيراني وزملاء دراستي،لقد كانت فترة التأثير المثالي هي ما بين سن السابعة إلى سن الخامسة عشر وكنت تعلم وقتها يا أبتي أن هذه المرحلة هي مرحلة تصويب الولد نحو الهدف الصحيح،كنتُ أنا السهم وكنتَ أنت اليد والقوس والوتر،في هذه المرحلة كنا يا أبتي نتلقن كل شيء ونحب كل شيء ونستطلع كل شيء،في هذه المرحلة كنا نقلب أنواع الأصدقاء في معرض الدنيا العريض،أيهم ننتقي وأيهم نقتني وأيهم نصاحب، كنا في هذه المرحلة العجيبة عجينةً غضةً طيـّعة تستطيع توجيهنا الوجهة الصالحة،يا أبتي لكنك كنت وقتها تقضي أكثر أيام أسبوعك في الاستراحة مع الأصدقاء أو مع الزملاء أو مع الأقارب وفي مرات كنت تتابع تجاراتك التي لم تزد من سعادتك بل أحالت وجهك البشوش إلى صحراء من العبوس والغبرة والتشاؤم لم تكن يا أبتي تهتم باهتمامات مباحة لذلك كُنت أبحث عنها عند أيّ أحد مهما كان مقصده في توفيرها لي،ثم إنك جعلت علاقتي بك كعلاقة مدير مؤسسة فاشل بمرؤسيه،كانت علاقة الغطرسة والرسمية حتى أصاب علاقتي معك جفافاً وجفاءً وفجوة فلم أعد أقبل منك توجيهاً ولا نصيحة بسبب هذا الجفاء،ياأبتي لوأنك جعلتني صديقاً من أصدقائك لكان تأثيرك فيّ أكبر ولكنك كنت تعتبر هذه الصداقة مع أولادك ضرباً من التنازل الذي لا يليق برئيس مؤسسة محترمةٍ على حد زعمك، يا أبتي لو كنت أستطيع أن أقول غفر الله لك إهمالك في تربيتي لفعلت،ولكنني حينما فارقت هذه الدنيا بذنوب ثقيلة فإنني لا أملك أن أستغفر لنفسي من ذنب واحد من ذنوبي فكيف بذنوب غيري،ولكنك أنت الذي لازلت في دار المُهلة وتستطيع أن تستغفر لي ولنفسك، يا أبتي: إن تسببك في انحرافي لن يخفف عني شيئاً من العذاب الذي لقيته ولكنني أدعوك إلى التوبة من إهمالك لي وأدعوك إلى أن تتدارك الأمر مع بقية أخوتي قبل فوات الأوان، يا أبتي تدارك نفسك بالتوبة وتدارك إخواني بحسن التربية فلعل صلاحهم أن يكون سبباً في نجاتي يوم الدين.
الوقفة الثانية: جار غير عزيز
ولعل رجلاً من أهل هذه القبور أخذ يتهادى حتى وقف بباب جاره فلعله أن يعاتبه فيقول: جاري العزيز لقد كنت تطرق بابي فزعاً إذا رأيت الماء قد تسرب من الخزان العلوي حرصاً منك على مصلحتي ولكنك لم تكن تنبهني على بعض أصدقاء السوء الذين يخالطون أبنائي،لم تكن تذكرني بإهمالي لصلاة الجماعة، لم تكن تنبهني على إدخالي لأجهزة الفساد إلى منزلي، لقد كان حقيّ عليك أكثر من حقوق سائر الناس عليك فلو علمت يا جاري العزيز أن احتفاظك لنفسك بالصلاح لا ينجيك يوم الدين لمَا أهملتني،ولو علمت أن استثقالي لنصيحتك لا يسوّغ لك ترك نصيحتي ولبادرت إلى هذه النصيحة.
الوقفة الثالثة : ولقد جئتمونا فرادى
وهذا رجل تقلّب في مناصب مؤسسة خاصة أو عامة، كان في هذه الدائرة ملئ السمع والبصر، امتلأت ردهاتها بآماله العراض بل كادت لا تتسع لتلك الآمال ولقد فاجئه الموت وهو أوسع الناس أملاً وحرصاً ومزاحمة، كان يدخل دائرته التي اعتاد الد*** إليها كل صباح بنفس متوثبة متفائلة متطلعة إلى مستقبل وظيفي أكبر، لم يكن حين ذاك يفكر بالموت ولا ما بعده من هولٍ وعذاب ، فلو دخل دائرته بعد خروجه من قبره وتذكر وهو يلملم أكفانه المغبرة كم كان في دنياه في غرور، وكم كانت الأماني تضرب به في كل واد دون أن يفكر في حفرة القبر التي أودع فيها رهين عمله، لقد كان يتبختر في هذه الممرات بثيابٍ جديدة جميلة، لو وقعت عليها خردلة من غبار لنفضها بسبابته وهو الآن يلملم أكفاناً بالية بلغ الغبار والنتن منها كـل مبلغ ولعله لو مرّ بقسم الترقيات في دائرته لتذكر، كم كانت تزهق النفوس وتشرأب الأعناق للحصول على مرتبةٍ أو علاوة، بل ربما بذل دينه ومروءته من أجل ترقيةٍ أو علاوة وقد أيقن الآن ولكن بعد فوات الآوان أن رفعة الدرجات إنما هي عند الله وحده وأن علو مقام المرء إنما هو في قربه من الله وتمام عبوديته له،أما العبودية للدنيا فلا تزيده إلا حسرة وندامة وتشتتاً ولعله لو مر بغرفة بعض موظفيه لوجد هذا الموظف على عادته في الوشاية بزملائه ووضع العراقيل أمام أعمالهم ومشاريعهم حتى لا يظهر لهم نجم ولا يعلو لهم شأن ولا يعم لهم نفع وحتى لا يسبقوه بحسن رأي ولا جودة عمل فماذا عساه أن يقول لهذا الموظف لو رآه واستطاع أن يتكلم لعله أن يقول: هب أنك نافست مثل ما كُنتُ أنافس بالحلال والحرام فسبقت أقرانك وبرزت أترابك أليست سنياتٍ معدودة إن مُّد لك أجل ثم تأول بك الحال إلى عالم التقاعد حيث ينفض عنك أهل المصالح وتصير في عالم النسيان،هذا مآل الوظيفة في الدنيا أما مآلها في الآخرة فحفرة القبر الموحشة حيث لا أنيس إلا عملٍ صالح،ولعله أن يقول:كنا سمي المتورعين عن المنافسة المحرمة نسميهم سذجاً أو دراويش ذوي ورعٍ بارد لا طموح عنهم ولا يعرفون قيمة النجاح ولا يتذوقون طعم السباق مع الأقران،ولكن علمنا ولا ينفعنا هذا العلم الآن أن طريقتهم هي طريقة النجاة وأن المنافسة الحقيقية هي في قلب سليم وعمل صالح ينجو بها العبد من عذاب القبر الرهيب،وأن المنافسة الصحيحة هي التي لا تضر بالآخرين ولا تمنع مسيرة الخير ونفع الناس،آه آه ليتني أعود إلى الدنيا لأصفي سريرتي وأًحسن سيرتي،تالله إن صفاء السيرة هي راحة البدن وهي راحة النفس في الدنيا وهي النجاة في الآخرة،آه مما فعلنا بأنفسنا وما غرتنا هذه الدنيا وما أطعنا فيها إبليس الضلالة،وكنا نسمع قول الله تعالى{ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } ولعل صاحبنا ذلك الرئيس أن يرى في آخر الممر مكتب سعادة المدير حيث كان هو مديراً قبل وفاته،لقد تعود في هذا الممر أن يرى لأعوانه هناك إنتشاراً وخطفه وأصحاب المصالح بين يديه لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء والمراجعون يصدرون عن مكتبه بين موهوب ومحروم،رأى هذا المدير على ما عهد نفسه من إقصاء الأكفاء من الموظفين خوفاً من منافسته على جاهه وسلطانه فمرة بالعزل وأخرى بالمضايقة وأخرى بالتهميش رآه على ما كان يعرفه من نفسه من تكثير ذوي المطامع الذين لا يعرفون الذكاء إلا فيما يخدم سعادة المدير،ويكثر جاهه ويعظم سلطانه ومن ثم يحظون عنده بالرتب العالية والتقارير الكاذبة،لقد تعلم المدير وأعوانه بفطرةٍ مدنسة أن الدائرة التي لا تنجز مصالح الناس ومياه أعمالها دائماً جارية نقية يُرى باطنها من ظاهرها إنها إدارة لا تحقق المصالح الشخصية فلا بد من العمل بحرية من توفير مستنقعات آسنة متعكرة من مصالح الناس المتعطلة تسهل فيها حركة اللصوص ويسهل فيها اللعب على المغفلين فلذلك جعلوا هذه الدائرة في فوضى دائمة ثم حجبوا الناس عن سعادته حتى يوفروا هذه المستنقعات التي تعيش فيها الحشرات القذرة التي تحسن السمسرة في شراء الذمم وبيعها وهكذا حزن الاثنين معاً تعطيل مصالح الناس وأكل المال الحرام الذي يبذله الناس لإنجاز مصالحهم لعله أن يقف متأملاً في غمرة المراجعين بكفنه البالي المغبر فيقول:لو كان عندي القليل من التقوى والقليل من معرفة حال الدنيا وحال الآخرة لرأيت أن في النصح للناس أعظم الأجر والمثوبة،ماذا بقي معي في قبري من بريق المال الذي كنت أبذره بلا عد ولا حساب وأتمتع به بلا خوف من حشر وعذاب وماذا بقي معي من ضجيج الشرف وجلبة الأعوان وكثرة العلاقات والاتصالات وما أراه في عيون الناس من تعظيم وتبجيل،لقد تلاشى ذلك كله كبخار في يوم صائف فلم أدخل في هذا القبر من مالي وشرفي إلا بكفن،لله كم كنت مغروراً بهذه الدنيا حينئذ فقط أدركت معنى قوله-صلى الله عليه وسلم-(( ماذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) لقد كنت أرى ذلك كلّه ولكن نفسي كانت تزيّل لي ما أفعله وكانت شدة الإبهار في أنوار الدنيا تحجب عني رؤية الحقيقة فلم أتبينها إلا حين فات وقت الندم { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}